قصة قصيرة : نظارة شمس





بقلم :- خالد الطيب 
أتى الصباح بنوره على هذا الحى الهادئ على أطراف القاهرة، نسيم عليل وسماء صافية..
يومٌ يشجع على الخروج للعمل، وهذا يظهر من حركة الرجال والنساء الذاهبين لأعمالهم..ومن حركة البائعين الذين يُعدون بضاعتهم من خضار وفاكهة..هناك أيضا هذا البيت فى وسط أحد الشوارع، الذى ما إن دقت الساعة الثامنة ...حتى خرج منه شابٌ فى العشرينات من عمره، يرتدى نظارة سوداء وملابس أنيقة ...مر بمجموعة من الشباب، سلموا عليه وسلم عليهم ..ثم سار فى طريقه ناحية المطعم الموجود فى آخر الشارع، دلف إلى الداخل :
- السلام عليكم يا عم حسن
- وعليكم السلام يا شمس يابنى، أأحضر لك ما تطلبه كل يوم؟!
ابتسم شمس وقال له : ولا تنسى المخللات.
أنهى شمس طعامه ثم اتجه إلى جامعته ..هناك التقى به مجموعة من الزملاء، وقف معهم قليلا..واتجه بعدها الى محاضرته، فلاحظ مجموعة من البنات تقف وتنظر له كثيرا..لم يكترث كثيرا وأكمل طريقه..
هذا هو اليوم التقليدى لشمس من بدايته لآخره، ترافقه هذه النظارة السوداء دائما لسبب لا يعلمه أحد غيره ..
أتى اليوم الثانى والثالث ولا شئ يتغير، ولكنه لاحظ أنه كلما اقترب من أحد يتكلم فإنه يصمت حتى يمر ثم تبدأ الهمسات والهمهمات، لذا ففى هذا اليوم نزل فى موعده كالعادة، فرأى مجموعة الشباب الذين يتقابلون للذهاب لمدارسهم، قرر أن يعرف ماذا يقولون عنه..
ذهب فسلم عليهم وسار ولكنه تعمد التباطؤ، فسمع أحدهم يقول " مغرور " ! ، وآخر يقول : هو لحد امتى هيفضل (تِنك) ...استغرب كثيرا من هذه الكلمات ..وتسائل عن سببها، وأخذ يفكر فى الموضوع الذى سيطر على تفكيره حتى وصل للمطعم .. :
- السلام عليكم يا عم حسن، الطلب اليومى المعتاد من فضلك
- حالا يا شمس، والمخللات طازة كمان
- قل لى يا عم حسن،هل ترانى مغرورا ؟
- حاشا لله يا شمس، أنت شاب خلوق ومحترم، وسأكون أظلمك إن قلت مثل هذا
ابتسم شمس وتناول طعامه، فقد أعاد له كلام عم حسن الثقة بنفسه
ذهب للجامعة، قابل زملائه ووقف معهم وعندما تركهم وادعى انه ذهب وهو واقف يراقبهم من بعيد ..سمعهم يقولون :
يظن أنه أنيق و (شيك)، يبدو مظهره بهذه النظارة كأنه شخص أعمى ...وانفجروا فى الضحك،،
ما جعل حاجبيه ينعقدان، فلم يصدق ما يسمع من أقرب زملائه.
اتجه إلى المدرج وهو يُفكر، قابل مجموعة البنات اللاتى يتوقفن لينظرن له ..تركهم وسار قليلا ثم انصت لحديثهم من بعيد :
- يبدو أنه من عائلة كبيرة، فهو يبدو على مظهره، كذلك هذه النظارة التى يرتديها دائما، تجعله أشبه بأبناء
فيضحكون، ثم ترد واحدة منهن :
- ربما من الأفضل لو تتوقفوا عن الكلام فى مثل هذه الموضوعات ،ألا تخجلن لو سمعكن أحد ؟!
لم يتوقف ليستمع لأكثر من هذا...حتى أنه قرر الرحيل وعدم حضور المحاضرة
ذهب للبيت، رقد على سريره.. أخذ يُفكر ويُفكر..لم كل هذا القدر من النفاق، لم يقولون عنى هذا وهم لا يعلموننى كفاية..ماذا فعلت لهم، وماذا فعلت نظارتى الشمسية لهم ؟!
فجأة ، بخار كثيف ملأ الغرفة، استغرب من أين أتى..ولكن بمجرد انقشاعه، رأى ما جعله ينتفض من مكانه واقفا !!
فقد كان هناك شخصا واقفا فى منتصف الغرفة تماما ..كأنه برز من العدم..كانت المفاجأة قوية لدرجة أنها أفقدته النطق ..
شق الرجل الغريب صمت المكان وقال :
-أنا صديق من مكان بعيد، لا تخف منى فأنا هنا لمساعدتك..لك منى الأمان
قال شمس:
- أظنه ليس شيئا عاديا أن يدخل أحدٌ غرفتك وبابها وشباكُها مغلقان
- نعم ليس شئ عادى، ولكننى هنا فى مهمة، أنا أعلم مشكلتك، ولدى الحل لها، أنت تعانى من فهم الناس الخاطئ لك، يُظهرون أمامك شيئا ومن وراء ظهرك أشياء..لذا فأنت تأمرنى وأنا أنفذ لك..
بدأ شمس يقتنع بسرعة غريبة، فكر ثم قال له :
أريد أن يقول الناس عنى كلاما حسنا دائما..أخبره الغريب : لك ما شئت
فى الصباح التالى، خرج شمس كعادته من البيت فى الثامنة، سلم على تلاميذ المدرسة ووقف يستمع لقولهم عنه، فأحدهم يقول ليتنى أصبح مثله والآخر يمدحه ..فعلم أن الأمنية تحققت
ذهب للمطعم، لا تغيير..عم حسن طيب كعادته، لا نفاق هنا
فذهب إلى الجامعة حيث مرتع النفاق والإستغلال ..فبجله زملائه، وأثنت عليه الفتيات وعلى أخلاقه ولم يتحدثوا بشكل مستغل كالعادة ولكنهن ظلوا تافهات فى مواضيعهن ..عدا تلك الفتاة التى أنبتهم من قبل على أقوالهم.. ثم حضر المحاضرة
استمر هذا الحال عدة أيام، فحدثت لشمس حالة من الملل الشديد وتأنيب الضمير على هذه الأمنية، ليس جيدا أن يظل كل الناس يمدحون فيك..بهذه الأمنية أصبح هو من ينافق نفسه وليس هم، وتمنى لو عاد كل شئ لوضعه، فلن يهمه كلام الناس طالما لا يفعل شيئا خاطئا
إنه ليس بحاجة لجني يحقق أمانيه، سيحققها هو !
هنا، شعر بالدنيا تدور به، وعيناه ثقيلتان، فأغمضهما وفتحهما عدة مرات..حتى علم السبب
لقد غرق فى النوم بعد أن عاد من الجامعة وقرر عدم حضور المحاضرة، ثم وضع الطعام على النار ونسيه، وهذا سبب هذا الضباب الكثيف من (شياط) الأكل
اكتشف أن كل هذا كان مجرد حلم، وحمد الله على أنه لم يتحقق..ولكنه تعلم منه الكثير
علم من ينافقه فعلا ومن يعامله بصدق، علم من تنظر اليه لتستغله ومن تحترمه كزميل، من يحترمه أيا كان شخصه ومن يرافقه فقط ليغتابه..والمشترك فى كل هذه الأمور هى النظارة !!
اذا هل النظارة هى التى تسبب لكم كل هذه الحيرة ؟!! حسنا
نام فى تلك الليلة وقد اتخذ قراره..
استيقظ فى الصباح التالى، استعد للنزول..الثامنة إلا خمس دقائق، ارتدى الحذاء، أخذ الشنطة من على المنضدة المجاورة للباب، ثم فتحه وجذبه خلفه برفق،..وقبل أن يُغلق ..مد يده على المنضدة ليأخذ من كان رفيق رحلته وسلاحه الحامى

أخذ النظارة السوداء القاتمة..نظارة شمس !!




التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات: